محطاتي مع سيد محمد ولد بوبكر

المحطة الأولى:

في إحدى ليالي الثمانينيات كنت مع أصدقاء لي نستمع إلى نتائج مجلس الوزراء، فكان من ضمن المعينين سيد محمد ولد بوبكر وحينها لم أكن أعرفه، فما كان من أحد الحاضرين إلا أن قال في إعجاب ذلك شاب يستحق أكثر من ذلك فسيتألق نجمه صاعدا، فهو الذي تخرج على رأس أول دفعة من الإداريين الماليين بتقدير ممتاز، ملكني التعجب من ذلك لمعرفتي ببعض أفراد تلك الدفعة ممن لهم ذكاء مفرط وينحدرون من أسر علمية جاوز صيتها البلد.
المحطة الثانية:
ومن المفارقات العجيبة أنني في الليلة الموالية اصطحبني أحد الزملاء إلى منزل يريد تهنئة صاحبه دخلنا المنزل فاستقبلنا شاب وسيم ببشاشة فائقة لم نمكث طويلا، بعد خروجنا قال لي أن هذا هو الإداري المالي ول بو بكر، تغربت من هذا المنزل الهادئ إذ لا فلكلور فيه ولا صخب، خلافا لما اعتدته في المنازل الموريتانية التي يحظى أصحابها بتعيينات كبيرة.
المحطة الثالثة:
ما إن شهدت العاصمة نواكشوط أول انتخابات بلدية أواخر سنة 86 حتى ذاع صيت سيد محمد ولد بوبكر كأحد أبرز المكونين للائحة البيضاء، كما يسميها الموريتانيون لائحة الأطر وهو اسم طابق مسماه، فالرجل كان محور استقطاب الجميع، وكانت لائحته مؤازرة من طرف ما يعرف حينها بالتيار الإسلامي آنذاك، لم أكن أتصور أن هذه اللائحة ستفوز بمنصب أول عمدة في نواكشوط وتهزم نظيرتها المكونة من أصحاب الجمع والمنع.
المحطة الرابعة:
لم أكن على موعد مسبق باللقاء الذي جمعني بأبرز مدراء مؤسساتنا المالية آنذاك سيد محمد ولد بوبكر في منزل أحد أصدقائي بمقاطعة المذرذرة، كنت أتوقع أن الرجل سيمتلئ كبرا بحكم تقلبه في الوظائف السامية كعادة أمثاله من الموريتانيين، لكن العكس هو ما حصل بالفعل
ملأ السنابل تنحني بتواضع والفارغات رؤوسهن شوامخ
لو أنني لا أعرف من قال فيه أحد حكماء بني ديمان منوها به إنه يتكلم قدر الكلام ويسكت قدر السكوت، وهي شحنة ديمانية تحمل في طياتها ما فيها من قيمة لخلت أنه يعنيه.

المحطة الخامسة:
لم تربطني بالرجل أية علاقة ولا أية مهمة تتعلق بمرفق يديره إلا حين ما انتخب أمينا عاما للحزب الجمهوري، وحينها كنت قبل ذلك بثلاث سنوات قد أجرت دارا عندي في العاصمة لتكون مقرا لقسم الحزب في إحدى مقاطعات العاصمة بمبلغ معتبر في تلك الفترة قبل أن تختزل أصفار أوراقنا النقدية فيما بينها، لم أحصل خلال تلك الفترة إلا على تعويض شهور فقط لا تكفي لإصلاح الخسار الذي لحق الدار، وأحصل عليها بجهد جهيد أتسلمه يدا بيد من المحاسب الذي يسلمه لي وكأنه خارج من جيبه، ما إن تولى سيد محمد مهامه الحزبية وبدون وساطة أو لقاء؛ أمر بتسوية جميع الحقوق العينية، وسلمنا المحاسب الجديد ذي السمات الموريتانية الأصيلة شكا فيه جميع ما نطالب به الحزب لسحبه من أحد البنوك، وقال إن ولد ببكر رفض أن تدخل النقود داخل مقر الحزب، وحل عقد الدور لأنه لا يريد التلاعب بمصالح المواطنين لصالح الحزب كما قال.
المحطة السادسة:
عرفت أن للرجل شأنا وتابعت مسيرته من ذلك الحين، فبوصوله إلى قيادة الحزب أحدث تغييرات جوهرية قد لا تبقى إلا مع مؤرخ سياسي غير بعيد عن السياسة وإن لم يكن حزبيا، فولد ببكر هو الذي أمر بتجديد قواعد الحزب عن قرب لا عن بعد، ورفض أن تتجمع المفاتيح في يد واحدة كما كانت، حيث كان من أساطين الحزب في تلك الفترة من يجمع بين وظائف مختلفة كالنائب والعمدة والاتحادي، أو العمدة والوزير… إلخ،
فأسقطت تلك الرؤوس اليانعة ذات الحربائية مع جميع الأنظمة، وصعدت في تلك الوظائف وجوه شبابية كانت مغيبة ووجوه من طبقات كانت مهمشة.
وإني لأعرف تلك الأشخاص بأسمائها ومقاطعاتها ووظائفها، وهي التي كانت تطالب بالمأمورية الثالثة وتلتف اليوم في عباءة ولد الغزواني.
المحطة السابعة:
في أثناء زيارته الميدانية لقواعده الحزبية لمعرفة الحقيقة، وهي زيارة لم يقم بها قبله ولا بعده أحد ممن تولى رئاسة ذلك الحزب، في أثناء تلك الزيارة لم أتفاجأ بتعيينه أمينا عاما لرئاسة الجمهورية خلفا للرجل الراحل أكبر بررة الوطن الذي كان يوفق بين مصلحة بلاده وحماقات رؤسائه أحمد ولد منيه، وهو منصب لا يمكن أن يسده سوى سيد محمد ولد بوبكر، لكنني تفاجأت بإقالته من ذلك المنصب بأيام بعد المحاولة الانقلابية 2003 قبل أن أعرف أنه يؤخذ عليه عدم رضاه عن تلك الوضعية التي يعيشها البلد آنذاك.

المحطة الثامنة:
استبشرت خيرا حينما أسندت إليه رئاسة الحكومة الانتقالية فهو الوزير الوحيد في تاريخ الحكومات الموريتانية الذي أسندت إليه حقيبتان وزاريتان هما دعامتا الاقتصاد الوطني: وزارتا: الصيد والاقتصاد البحري، ووزارة المالية سنة 1991، فسيرهما بجدارة في حين أخفق وزراء كثر في تسيير وزاراتهم ذات الاختصاص المحدود، وهنا أترك للقارئ المقارنة بين تلك الفترة التي تعد بالأشهر وبين العشرية الأخيرة التي إن عدت بالمقياس الزمني فإنها بمقياس المعاناة تضاعف ذلك العدد.
المحطة التاسعة:
كان آخر لقائي بالرجل لقاء في الذاكرة، كما يقال الذكرى جرس يدق في عالم النسيان، ذلك أني وأنا أمر قرب سوق العاصمة إذا بمعول الهدم يطيل مدرسة السوق عرفت أن الآمر بالهدم يريد الحصول على الثمن والمثمون، فهو الذي لم يترك إنجازا بعده يذكر به، يريد هدم ما أنجز قبله لينمحي ذكر ما قبله، لكن أسفي إن تعلق الأمر بمنشأة ذات بعد ثقافي تخرج منها خيرة نخبة البلاد التي خدمت الوطن أمثال سيد محمد ولد بوبكر، الذي كان مضرب المثل عند ذلك المعلم الذي تولى التدريس في تلك المدرسة في عقدي الستينات والسبعينات، فلم يشد بتلميذ موهوب كإشادته بهذا التلميذ صاحب الموهبة العلمية والسلوكية والأخلاقية.
لم يبق لي إلا أن أتذكر بيت الأديب الموريتاني:
تخفي التراب بذور النبت تأكله والنبت يختلق الأجواء ريانا
فها هو سيدي محمد ولد بوبكر الآن وليس غدا يخلق الأجواء ريانا، فهو الدبلوماسي بالسمت والسلوك والاقتصادي بالشهادة والخبرة والإداري بالحكمة والنزاهة والسياسي بالحنكة والتبصر والأديب بالظرف والذوق والناجح بالاستحقاق.
مرشحن ناجح فالزرك الفوك ابصيف نظيفه
امعاه اهل الكبل والشرك والتل وتفندسيفه

جمعة, 03/05/2019 - 08:02