حدث وتعليق/ موريتانيا وخيار الحوكمة الذكية.. منصة الصفقات العمومية بوابةُ تحولٍ مؤسسي عميق

تشهد موريتانيا واحدة من أكثر خطواتها جرأة على طريق إصلاح الإدارة وتعزيز الشفافية، مع التوجه لاعتماد منظومة رقمية متكاملة لتسيير الصفقات والمشتريات العمومية قبل نهاية العام الجاري.

هذا التحول لا يقتصر على إدخال أداة تقنية جديدة، بل يمثل، وفق المراقبين، انتقالا واضحا من الإدارة الورقية إلى إدارة تعتمد على البيانات والرقمنة والحوكمة الذكية، في قطاع يُعد من أكثر القطاعات حساسية وتأثيرا على المال العام.

لم يكن الاجتماع الذي ترأسه وزير التحول الرقمي وعصرنة الإدارة، السيد أحمد سالم ولد بده، بحضور الجهات الرقابية والتنظيمية للصفقات العمومية، اجتماعا بروتوكوليا بقدر ما كان إعلانا عن جاهزية مرحلة جديدة.

فقد تم استعراض مؤشرات جاهزية المنصة الرقمية التي سيبدأ العمل بها في 15 ديسمبر 2025، وهو تاريخ يمثل فاصلاً بين العهد الورقي، بما فيه من بطء وضعف في التتبع وتشتت للإجراءات بين القطاعات، والعهد الرقمي الذي يفرض مسارا موحدا، يضع كل مراحل الصفقة داخل منصة واحدة، تَظهر فيها العمليات لحظيا ويُكشف مسارها من التخطيط حتى الدفع.

هذه المنظومة ليست واجهة إلكترونية لإرسال الملفات فحسب؛ بل نظام متكامل يربط بين مختلف مراحل إنجاز الصفقة العمومية، إلى الإجراءات الفنية والإدارية المتعلقة بإعداد دفاتر الشروط وتقييم العروض،  وكذلك التنفيذ والمتابعة والرقابة، فضلا عن الاستلام النهائي وتسديد المستحقات.

هذا التكامل يخلق لأول مرة ما يشبه “السجل الوطني للصفقات” حيث تصبح كل وثيقة وكل إجراء وكل تغيير قابلين للتتبع رقميا، بما يحدّ من المساحات الرمادية التي كانت تُشكل بيئةً مُثلى للغموض والتدخلات غير المشروعة.

إن الترقب الذي يخيم على مشهد الصفقات العمومية اليوم مردّه إلى أن النظام الجديد سيُدخل مفهوم الشفافية إلى حيّز التطبيق الفعلي. فالآليات الرقمية المتقدم، من التشفير، وحماية البيانات، وتسجيل الإجراءات، والطابع الزمني غير القابل للتلاعب، ستجعل من الصعب التجاوز أو التلاعب في مراحل الإبرام.

كما أن نشر الخطط السنوية وإجراءات التعاقد على المنصة سيتيح للفاعلين الاقتصاديين فهم خارطة الفرص، ويحد من الاحتكار غير المعلن للمعلومات، وهو ما يمنح الشركات الصغيرة والمتوسطة مساحة أوسع للمنافسة.

ويمثل المشروع أحد المكونات الأساسية لبرنامج الاندماج الرقمي في غرب إفريقيا (WARDIP – موريتانيا) الممول من طرف البنك الدولي، وهو ما يضعه في سياق إقليمي أوسع يهدف إلى إرساء إدارة عمومية رقمية قادرة على التفاعل مع متطلبات الاقتصاد الحديث.

ولعل انخراط الجهات الرقابية، من سلطة تنظيم الصفقات العمومية إلى اللجنة الوطنية للرقابة، في قيادة المشروع يعكس قناعة رسمية بأن التحول الرقمي لن يكون فعالا إلا إذا أحاطت به منظومة رقابية محكمة.

إن إطلاق المنظومة الرقمية الموحدة لتسيير الصفقات والمشتريات العمومية ليس مجرد تحديث تقني، بل هو في جوهره إصلاح مؤسسي عميق ينقل الصفقات العمومية من دائرة الشك والاتهام إلى بيئة مفتوحة، قابلة للمراجعة، تعتمد على البيانات، وتُنشئ علاقات جديدة بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع.

إنها خطوة تفتح الباب أمام موريتانيا لتكون نموذجا إقليميا في الحوكمة الرقمية، وتؤسس لمرحلة جديدة يكون فيها المال العام تحت أنظار التقنية لا الاجتهادات الشخصية.

 

وكالة الوئام الوطني للأنباء

أربعاء, 26/11/2025 - 01:03