حدث وتعليق/ تدشين المعهد الوطني للبحوث في مجال الصحة العمومية.. بصمة في مسار تحديث وترسيخ الأمن الصحي

شكّل التدشين الذي أشرف عليه رئيس الجمهورية، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، للمعهد الوطني للبحوث في مجال الصحة العمومية ببلدية العرية، حدثا يتجاوز قيمته الرمزية إلى ما هو أبعد، فهو إعلان دخول موريتانيا مرحلة جديدة في بناء منظومة بحثية متقدمة تعزز قدرة الدولة على فهم المخاطر الصحية والتعامل معها بفعالية.

ففي بلد أدرك خلال السنوات الأخيرة هشاشة الاعتماد على الخارج في مجال الفحوص والتقصي الوبائي، يأتي هذا المعهد ليعيد رسم معادلة الأمن الصحي على أسس علمية أكثر صلابة.

وتبرز أهمية هذا الصرح في حجم الاستثمار المعرفي والتقني الذي يجسده. فالمنشأة لا تقتصر على كونها مبنى واسعا أو مرفقا ذا قاعات ومكاتب، بل تمثل بيئة علمية متكاملة تجمع بين المختبرات المتخصصة، والإمكانات البشرية المؤهلة، وقدرات الاستجابة للطوارئ الصحية.

إن وجود مختبرات بمستويات سلامة بيولوجية متقدمة من بينها مخابر المستوى الثالث، يعكس حجم الطموح في جعل موريتانيا قادرة على تشخيص أكثر مسببات الأمراض خطورة داخل حدودها، بدل إرسال العينات للخارج وانتظار نتائج قد تتأخر في أوقات تكون فيها السرعة جزءًا من النجاة.

هذا التدشين يحمل كذلك دلالة سياسية واضحة. فمنذ وصوله إلى الحكم، تبنى الرئيس غزواني نهجا يقوم على تعزيز البنى التحتية ذات الأثر الاستراتيجي العميق، ومنها قطاع الصحة الذي بات يحتل موقعا مركزيا في أجندة الإصلاح.

ويأتي إنشاء هذا المعهد كترجمة عملية لرؤية تعتبر الصحة العمومية رافعة للتنمية، لا مجرد قطاع خدماتي..رؤية تدرك أن دولة لا تملك بنيتها العلمية الخاصة تظل معرضة للاهتزاز مع كل أزمة صحية عالمية أو إقليمية.

ولعل اختيار بلدية العرية لاحتضان هذا المشروع يضيف بعدا آخر للتحليل. فهو يعكس رغبة جلية في توزيع المشاريع الكبرى خارج نطاق العاصمة، بما يمنح المناطق الداخلية مكانة في الهيكلة الجديدة للتنمية. كما يعزز حضور الدولة في محيط يفتقر تقليديا لمؤسسات من هذا المستوى، مما يشجع على خلق حركية اقتصادية وعلمية في ولاية اترارزة، ويمنحها دورا في الخارطة الصحية الوطنية.

ومن زاوية أخرى، يُنتظر أن يسهم المعهد في تغيير طريقة تعامل القطاع الصحي مع التكوين والبحث. فوجود قاعات تعليمية مخصصة للتدريب المستمر سيخلق بيئة تساعد الأطباء والفنيين على تحديث مهاراتهم، وسيتيح إنتاج كوادر وطنية قادرة على مواكبة التطور العلمي المتسارع. وبذلك لا يصبح المعهد مجرد محطة للتشخيص، بل مدرسة لإنتاج المعرفة الصحية، وحاضنة لوعي مهني جديد.

إن حضور الوزير الأول وأعضاء الحكومة وكبار المسؤولين والدبلوماسيين في حفل التدشين ليس أمرا بروتوكوليا بحتا، بل يعكس إدراكا بأن هذا المشروع يمثل انطلاقة لمرحلة نوعية في السياسة الصحية للبلاد.

فهو يؤسس لسيادة صحية تقوم على امتلاك أدوات العلم، ويضع موريتانيا على مسار مختلف في مجال اليقظة الوبائية، ويعزز قدرتها على التكامل مع الشبكات الدولية في مواجهة التحديات الصحية العالمية.

بهذا المعنى، فإن المعهد الوطني للبحوث في مجال الصحة العمومية ليس مجرد منشأة جديدة، بل خطوة استراتيجية تفتح أفقا واسعا نحو بناء نظام صحي يعتمد على البحث، ويرتكز على الكفاءات، ويستند إلى رؤية دولة تريد أن تتحول من الاستجابة المتأخرة للأزمات إلى القدرة على استباقها. وهو بذلك أحد المشاريع التي تحمل بصمة واضحة في مسار تحديث الدولة وترسيخ مقومات أمنها الصحي لسنوات طويلة قادمة.

 

وكالة الوئام الوطني للأنباء

جمعة, 21/11/2025 - 19:17