
في زمن التواصل الفوري والتفاعل اللحظي، لم تعد الأحداث اليومية تمر بهدوء كما في السابق. فقد بات من السهل تحويل وقائع عادية أو محلية محدودة إلى قضايا رأي عام مشحونة، من خلال التهويل، والاقتطاع من السياق، والتضليل الإعلامي المقصود.
ولعل أخطر ما في الأمر، هو استغلال تلك الأحداث من قبل أطراف مغرضة أو أصحاب أجندات خاصة لتوجيه الرأي العام بعيدًا عن الحقيقة، عبر الإعلام العتيق أو وسائل التواصل الاجتماعي بشكل غير مهني.
ويحذر خبراء الإعلام والمجتمع من أن هذا النوع من التضليل يؤدي إلى زرع الشك في المؤسسات، وإضعاف الثقة العامة، وتشويه صورة الواقع، مما يخلق بيئة نفسية واجتماعية مشوشة، تعرقل الاستقرار وتغذي الصراع بدل الحل.
كما يؤكد مراقبون أن تشويه الوقائع يبدأ غالبًا بتفصيل صغير يُضخَّم، أو حادث عابر يُنتزع من سياقه، ثم يُعاد تدويره بطريقة تخدم روايات مختلقة، تستهدف الإثارة على حساب الدقة.
وفي هذا المضمار، تداولت المواقع والمنصات مؤخرا على نطاق واسع خبرا يفيد بمصادرة الجمارك الوطنية لشحنة من الملابس العسكرية، وسعى البعض عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى التشكيك في التدابير الأمنية على المستوى الوطني، والترويج دون إدراك لإسقاطات وفرضيات خارج السياق.
والحقيقة أن الأمر يتعلق بالفعل بشحنة ملابس عسكرية، تم رصدها قبل شهر أثناء محاولة إدخالها عبر المعبر الحدودي في روصو، وقد تبين بعد التحري أن الأمر يتعلق بنشاط تجاري فردي غير منظم، في إطار تجارة الملابس، كما تأكد من خلال استجواب المستورد والتحقيق معه انتفاء أي مخاوف أمنية.
وقد خضعت عملية التوقيف والحجز للإجراءات القانونية المعمول بها في مثل هذه الحالات، قبل أن تصدر لاحقًا أوامر قضائية بمصادرة الشحنة وفقًا للضوابط المعتمدة.
الشحنة التي تم رصدها واكتشافها بمهنية عالية، قبل أن تدخل البلاد لا تشكل أي تهديد أمني من أي نوع، لكن ما فات ممتهني ركوب الأمواج هو أن العملية في حد ذاتها تعد نجاحا باهرا، ودليلا على يقظة الأجهزة الأمنية والجمركية، المكلفة بضبط ومراقبة المنافذ الحدودية.
وتُعد الجمارك الموريتانية خط الدفاع الأول في وجه التهريب والتلاعب التجاري، وقد أظهرت في السنوات الأخيرة يقظة متزايدة وسرعة ملحوظة في ضبط المخالفات، سواء عبر الموانئ أو المعابر البرية أو الجوية.
وقد شملت مضبوطات الجمارك خلال الفترة الأخيرة شحنات غير مصرح بها من الأدوية، والمعدات، وحتى المخدرات، بفضل التنسيق مع الجهات الأمنية.
ويعتمد قطاع الجمارك نظام رقابة ذكي قائم على التحليل المسبق للمخاطر والبيانات، ما يساعد على تحديد الحاويات المشبوهة، مع وجود فرق تفتيش متنقلة تجوب الأسواق والمخازن، وتوقف المواد المهربة والمقلدة.
وتمثل الأثر المباشر لتلك اليقظة في حماية الاقتصاد الوطني من المنافسة غير المشروعة التي تمارسها السلع المهربة، و دعم الصناعات المحلية بمنع دخول البضائع الرديئة أو المزورة، فضلا عن زيادة ثقة المستثمرين والموردين بوجود رقابة صارمة تحمي السوق.
وتعكس يقظة الجمارك الموريتانية تطورا ملحوظا في منظومة الرقابة الحدودية، وتشكل عاملا حاسما في حماية السيادة الاقتصادية للدولة، وفرض احترام القوانين التجارية، في زمن تتطور فيه أساليب التهريب والتحايل بوتيرة سريعة.
إن مواجهة تحدي تحويل وقائع عادية أو محلية محدودة إلى قضايا رأي عام مشحونة، من خلال التهويل، والاقتطاع من السياق، والتضليل الإعلامي المقصود، تتطلب وعيا جماعيا متزايدا، ومهنية إعلامية صارمة، واستجابة رسمية متزنة توضح الحقائق دون انجرار وراء الحملات، إلى جانب تعزيز ثقافة التحقق من المعلومات قبل التفاعل معها أو تبنيها.. فالحقيقة تكون ضرورية ومساعدة في تعزيز الشفافية وتصحيح الاختلالات حين تُعرض كما هي، لكنّها غالبا تُغتال حين تُقدّم مجتزأة، أو مغلفة بغلاف الإثارة والتهويل.
وكالة الوئام الوطني للأنباء