يمثل الاستقلال أحد أعظم الإنجازات الوطنية التي تعيد إلى الأذهان مرحلة الانعتاق من قيود المستعمر واستعادة السيادة الوطنية على الأرض والمؤسسات. ففي 28 نوفمبر 1960، خطت موريتانيا أولى خطواتها كدولة مستقلة، راسمة بذلك مسارًا جديدًا ملؤه الطموح لبناء وطن يليق بأبنائه. ورغم عظمة هذا الإنجاز، فإن الاستقلال ليس مجرد ذكرى تُحيى كل عام، بل هو مشروع دائم يرتبط بالحاضر ويؤسس للمستقبل.
قبل الاستقلال، عانت البلاد من هيمنة المستعمر الذي سيطر على الإدارة والمؤسسات، وفرض سياساته دون اعتبار لحاجات السكان أو طموحاتهم. كان المستعمر هو صاحب القرار، والمواطن مجرد تابع محروم من المشاركة الحقيقية في تسيير شؤون وطنه. أما اليوم، فإن المسؤولية الكبرى في إدارة البلاد تقع على عاتق أبناء الوطن، مما يعكس تحولاً جذريًا في معادلة السلطة والقرار. ورغم ذلك، لا يخلو المشهد من تحديات وإخفاقات ناجمة عن سوء إدارة بعض المسؤولين الذين لم يكونوا على قدر الأمانة، فأهدروا فرص التنمية وعجزوا عن تحقيق تطلعات الشعب.
إن الانتقادات التي تُوجه للاستقلال أحيانًا تفتقر إلى النظرة الشاملة والعادلة. فالاستقلال ليس مسؤولاً عن الإخفاقات التي تتحملها السياسات أو الأشخاص الذين أساؤوا استغلاله. بل إن النجاحات التي تحققت، رغم التحديات، دليل على أن الاستقلال هو الأساس الذي يُبنى عليه كل إنجاز. فموريتانيا اليوم أكثر استقرارًا وأمناً مقارنة بفترة ما قبل الاستقلال. كما شهدت تطورًا ملموسًا في مجالات عديدة مثل التعليم، والصحة، والبنية التحتية، والاقتصاد، رغم أن هذا التطور ما زال بحاجة إلى تسريع وتيرة التنفيذ واستثمار الإمكانات.
إن النهوض بالوطن يتطلب من الجميع الإيمان بأن الاستقلال ليس محطة انتهت، بل هو دعوة مستمرة للالتزام بالمسؤوليات. على المسؤولين أن يدركوا أن نجاحهم يُقاس بمدى إخلاصهم للوطن والدستور والقوانين، لا بانحيازهم للأفراد أو المصالح الشخصية. فالوطن يحتاج إلى جهود جماعية تُعزز السلم الأهلي، وتحافظ على الأمن والاستقرار، وتضمن مشاركة فعالة لجميع مكوناته في بناء مستقبل مشترك.
في هذا السياق، يجب أن نتعلم من تجاربنا الوطنية، وأن نستلهم العبر من نجاحات وإخفاقات الدول الأخرى. فالعالم مليء بنماذج ملهمة لدول تمكنت من تجاوز تحدياتها وتحقيق نهضة شاملة بفضل التزام شعوبها وقياداتها. كما أن النجاحات التي تُحقق في أي مجال لا تُبنى على فراغ، بل تأتي نتيجة محاولات متكررة قد يعتريها الإخفاق في البداية. لذا، علينا ألا نثبط العزائم بسبب الإخفاقات، بل أن نعتبرها خطوات ضرورية في طريق تحقيق الأهداف الكبرى.
وإذا كان الحاضر يفرض علينا تحديات تتعلق بالتنمية والعدالة الاجتماعية وتحقيق الكرامة لكل مواطن، فإن المستقبل يتطلب رؤية واضحة تعمل على الاستفادة من الإمكانات الطبيعية والبشرية التي تزخر بها البلاد. يتطلب ذلك استثمارًا ذكيًا في التعليم باعتباره الركيزة الأساسية لأي نهضة، إلى جانب إصلاح القضاء، وتحقيق النمو الاقتصادي المستدام، وتطوير الإدارة لتكون أكثر كفاءة وشفافية.
وفي خضم هذه الجهود، علينا أن نثمن ما تحقق من إنجازات، دون أن نغفل الحاجة إلى النقد البناء لتصحيح المسار. لقد أثبت أبناء موريتانيا قدرتهم على تحقيق إنجازات ملموسة في مجالات الأمن، والصحة، والتعليم، والاقتصاد، رغم الظروف الصعبة. ولكن هذا النجاح لن يستمر إلا بتضافر الجهود والابتعاد عن التفرقة ودعاة الفتنة الذين يسعون للنيل من وحدة الوطن واستقراره.
الاستقلال يمثل نقطة انطلاق نحو المستقبل. علينا أن نحافظ على هذه القيمة العظيمة التي لم تكن لتتحقق إلا بتضحيات كبيرة، وأن نعمل جميعًا من أجل استكمال مشروع بناء الوطن بما يليق بأبنائه وبمكانته بين الأمم. فالوطن أمانة في أعناقنا، ومسؤولية الحفاظ عليه تبدأ من الإيمان بأهمية الاستقلال ودوره في صنع الحاضر وبلورة المستقبل.
عاشت موريتانيا مستقلة ومزدهرة يقودها أبناؤها البررة نحو مستقبل مشرق.
ذ/ محمد فاضل الهادي