"الوثيقة" رصاصة أخطأت الهدف

 

(افتتاحية الوئام الوطني ): منذ أيام ترعد شبكات التواصل الاجتماعي، وتزبد المواقع الإخبارية، ويتطاير ريق المحللين في صالونات "أهل الخيام"، حول ما قيل إنه "وثيقة جد سرية، كشف عن وجودها مسؤول حكومي سابق، تضمنت أسماء شخصيات متهمة باختلاس ملايين الدولارات".

كل شيء في هذه البلاد يدعو إلى الصراخ والهرج والتعاليق: يستوي في ذلك "موت عالم" و"عضة كلب لطفل في تيارت"، و"الاشتباه في محاولة انقلابية"، و"سيارة تدهس حمارا في عرفات". لا شيء يهم هنا سوى التحليل والتعليق لأننا ما نزال مجتمعا كلاميا شفاهيا بحكم تنشئتنا البدوية وماضينا في البداوة. ذلك ما يسميه حسين هيكل "لعنة الجغرافيا"، فلنتجاوزه.. لا يهم.

لقد فتحت "القناة" استيديوهاتها للمسؤول، فأكد أنه يمتلك تلك الوثيقة القاتلة سياسيا. تداعى الجميع إلى المواقع الإخبارية ووسائل التواصل والصالونات للإطلاع على حيثيات هذا الخبر الخطير. وأخيرا تبين أن الأمر يتعلق بملف البنك المركزي الموريتاني الذي تناوله القضاء في تحقيقات مشهورة، وفي جلسات علنية، وبأحكام واضحة، فأحيل فيه إلى السجن من أحيل، وتمت تبرئة من استحق البراءة، وأغلق القوس، فانتهت القصة.

أن يكون وزير العدل قد حصل على التفاصيل حسب تحقيقات مفتشيات الدولة، فالأمر فوق العادي.. أن يكون وزير العدل قد أحال التفاصيل إلى رئيس الجمهورية، فلا شيء يثير الاستغراب في ذلك. أن يكون الرئيس قد أحال الملف إلى درج مكتبه تاركا القضاء يقوم بعمله لأنه، هو، غير معني -دستوريا وقانونيا وعرفيا- بملف بين يدي القضاء، فذلك ما شكل أنصع مثال على الإنصاف والعدالة. لكن المتعودين منا على أن رئيس الجمهورية هو كل شيء: هو الشرطي والقاضي والوزير والصيدلاني، هو رئيس مصلحة الأثاث ومسير حانوت أمل ومعلم الحساب للسنة الثانية ابتدائية ومفتي مسجد عين فربه، هو الخباز والميكانيكي ورئيس المجلس الدستوري، هو الصحفي ورئيس اللجنة المستقلة للانتخابات وكاتب الضبط. هؤلاء الذين ترسخت في أذهانهم، بفعل عقود وعقود من دكتاتوريات الماضي وأحكامه الاستثثنائية، أن الرئيس هو القوة الأعظم، وهو الفاعل المطلق، وهو القانون، وهو القابض بيد من حديد على الألف والياء من حياتنا. هؤلاء الذين علمتهم تجارب ماضينا أن الرئيس معني بالتحقيق والإحالة وإصدار الأحكام وتنفيذها. هؤلاء، إذن، هم من فاجأهم أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أحال ملف البنك المركزي إلى درج مكتبه، لأنه لا يعنيه.

لكن علينا أن ننتبه لـ"ما وراء الخبر"، إذ لا يمكن لمن روجوا خبر "الوثيقة السرية" أن يكونوا سذجا أبدا، فهم يعرفون ما يقولون، ويتقنون أساليب الإبلاغ، ولا شك أنهم يسعون، من وراء الترويج لخبر لا قيمة له، إلى تحقيق هدف، علينا نحن أن نبحث عنه ما بين سطور الشائعة.

لقد أضحى من المعروف أن رئيس الجمهورية، دعما لسياسة التهدئة، يسعى هذه الأيام إلى إطلاق تشاور شامل حول القضايا الوطنية، ومن الجلي أنه نجح إلى حد كبير في استقطاب الرأي العام والفاعلين الوطنيين السياسيين والحقوقيين والمدنيين. وهكذا فالأمور تتجه إلى نجاح سياسي باهر يكسبه الرئيس غزواني لصالح مأموريته وتوجهاته. كيف بالتالي يمكن الوقوف أمام هذا النجاح؟.. فقط بالتشويش على التشاور خاصة في مرحلة الاستعداد. وهكذا جاءت فكرة "الوثيقة السرية" لتكون رصاصة في قلب التشاور، لكنها، في الحقيقة، أخطأت هدفها لأننا، ببساطة، فهمنا مآربها الأخرى.

 

وكالة الوئام الوطني للأنباء 

 

أربعاء, 27/10/2021 - 19:48