افتتاحية الوئام : مقترحات تمهيدية حول الحوار الاجتماعي المرتقب

وكالة الوئام الوطني - لكي ننير للرأي العام الموريتاني حول معنى ما دعا إليه رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني من إطلاق حوار اجتماعي في موريتانيا، يتوجب علينا، كإعلاميين يفترض فيهم أنهم يمثلون سلطة رابعة، أن نحدد بعض التعريفات والمنطلقات العامة والمقترحات والانتقادات بشأن الحوار الاجتماعي المرتقب، مع الاستلهام من تجارب الأمم الأخرى بغية تطوير الرؤية الموريتانية لهذا الحوار.

الحوار الاجتماعي نشاط يتم بين عدة أطراف (حكومية ومؤسساتية ونقابية) بهدف تعزيز التفاهم بين مختلف مكونات المجتمع الرسمية منها وغير الرسمية. وهو، وفق منظمة الشغل الدولية، يشمل جميع أنواع التفاوض أو التشاور أو تبادل المعلومات بين ممثلي الحكومات وأصحاب العمل والعمال بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك المتعلقة بالسياسة الاقتصادية والاجتماعية.

المهمة الأساسية للحوار الاجتماعي هي تصور حلول وسطة بين مختلف الأطراف (الحكومة، أرباب العمل، العمال)، فهو يخلق الانسجام ويسعى إلى تطوير شعور الانتماء لدى العامل بجعله في قلب الحوار، حسب بعض التعريفات.

والحوار الاجتماعي يخول الحل الأمثل للإشكاليات الاقتصادية والاجتماعية، وترقية الحكامة الرشيدة، والاستقرار الاجتماعي، والتنمية الاقتصادية.

إنه يهدف أيضا إلى تشجيع صياغة رؤية معتدلة بين مختلف الفاعلين في عالم الشغل وبين الشركات والعمال والحكومة، كما أنه يشجع الإسهام في ترقية الثقافة الديمقراطية وفي نشر ثقافة السلم والسلام والاستقرار. كما أنه يمثل آلية ناجعة لنقص وتيرة الاحتقان الاجتماعي في زمن الأزمات السياسية.

ويعمل الحوار الاجتماعي كذلك على تنمية قدرات النقابات ونظرائها من اتحادات عمالية ومنظّمات المجتمع المدني والدفع إلى حوار متعدد الأطراف بين الشركاء الاجتماعيين.

وإذا كان للأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية دورها المهم في الحوار الاجتماعي، على أساس برامجها ورؤاها حول البطالة والعمل والتظلمات والإرث الإنساني، فإن نقابات العمال تظل الطرف الأساسي في أي حوار ذي طابع اجتماعي لأنها مهتمة حصريا بالقضايا الاجتماعية (من حقوق العمال إلى العرائض المطلبية الاجتماعية...) ولأنها راكمت التجارب في هذا الشأن ولأن لديها، في الغالب، بنك معلومات عن الجوانب الاجتماعية والعراقيل والمظالم.

العمل النقابي بموريتانيا

حسب المادة 264 من مدونة الشغل الموريتانية، فإن "النقابات المهنية واتحادات النقابات هي تنظيمات تتمتع بالشخصية الاعتبارية، وتهدف إلى الدراسة والتمثيل والدفاع عن المصالح المادية والمعنوية للمهن الحرة والاقتصادية والتجارية والحرفية للمنضمين إليها". وتقوم النقابات، حسب ما يخولها القانون الموريتاني بـ"الرقابة على أداء السلطات، وإرساء دولة القانون والحكم الرشيد". وتعتبر المنظمات النقابية أهم مكونات المجتمع المدني المعنية بالرقابة على أداء السلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، وهي مخولة بحق تقديم المشورة والرأي من خلال المذكرات، والبيانات، والرسائل المفتوحة، والاعتصامات القانونية، والمسيرات المرخصة، والإضرابات السلمية المكفولة دستوريا.

وتقدم المنظمات النقابية المقترحات الضرورية لتوجيه السياسات الحكومية في المجالات الاجتماعية والاقتصادية. وهي مسؤولة عن السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية والكفاح من أجل توفير الخدمات الأساسية التي تكفلها القوانين والاتفاقيات الدولية لكل مواطن (العمل، السكن، الأمن، النقل، التمدرس، العلاج، الماء، الكهرباء، فك العزلة، الأسعار الملائمة للقوة الشرائية...).

وحسب المعاهدات الدولية، فإن المنظمات النقابية من مهمتها مراقبة  وحماية ثروات البلد ضد أية تصرف غير قانوني يقوم به فاعلون وطنيون أو تقوم به شركات أجنبية.

ورغم التاريخ الطويل للنضالات النقابية في موريتانيا، ورغم ما تعرض له بعض النقابيين من سجون ومن ظلم وإقصاء، فقد تأثر العمل النقابي بسياسات الأنظمة السابقة التي كانت تتدخل في انتخابات مكاتبها، وتخلق داخلها أجنحة معبأة لصالح الحكومة، وتمنع عن بعضها المساعدات، وتعطي تراخيص لنقابات كرتونية لا تهدف لغير عرقلة المطالب النقابية وإصدار البيانات المؤيدة للعمل الحكومي والمتغاضية عن قمع النشاط النقابي. وهو ما كان له الأثر السلبي على أداء النقابات خلال الفترات الماضية، باستثناء بعض الاتحاديات القليلة المعروفة بثبات الخط النضالي.

هذا الفشل الذي رافق العمل النقابي ربما كان سببا في عدم التوصل إلى حوار اجتماعي قادر على حل المعضلات المزمنة كمطالب حمّالة الميناء الذين يهددون الاستقرار كل سنة أو سنتين على الأكثر، وكمطالب الطلاب والمعلمين والمتعاقدين مع التعليم والأطباء وغيرهم من الفعاليات التي أصبح تظاهرها أمام الرئاسة والوزارات أمرا معتادا.

ولعل من أبرز معوقات الحوار الاجتماعي عدم فاعلية المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي لا يسمع به الرأي العام الوطني ولا يرى له أثرا إلا عند تنصيب رئيسه. فما هو دور هذا المجلس؟ وهل قام بمهمته على أحسن وجه؟ وما معنى إنشاء "المجلس الوطني للحوار الاجتماعي" في ظل وجود المجلس الاقتصادي والاجتماعي؟

المجلس الاقتصادي والاجتماعي

لا أحد ينسى قول الرئيس الموريتاني السابق، محمد ولد عبد العزيز، سنة 2011، أنه تردد كثيرا قبل تنصيب المجلس الاقتصادي والاجتماعي "حتى تكتمل الصورة أمام عمل هذه الهيئة الدستورية التي أعلق عليها آمالا جساما".

وقال ولد عبد العزيز، في كلمته بمناسبة تنصيب المجلس خلال حفل بهيج في قصر المؤتمرات بالعاصمة نواكشوط، إن "المجلس سيعمل على تفعيل الدور الاقتصادي والاجتماعي"، مشيرا إلى أن ذلك "يدخل في صلب اهتماماته واهتمامات حكومته". مضيفا أن "تفعيل المجلس سيساهم في تفعيل أداء الحوار البناء، كمنطلق يؤسس لديمقراطية شفافة وفعالة".

المهتمون بالسياسات الوطنية، من محللين وأحزاب ومنظمات، كانوا يعرفون أن تأخير فعاليات تنصيب المجلس الاقتصادي والاجتماعي يعود لأسباب سياسية، وأن الرئيس، حينها، لم يكن ينتظر من المجلس المساهمة في تأسيس ديمقراطية شفافة وفاعلة. والحقيقة أن الأيام لم تفند تخميناتهم لأن الرئيس لم يُسائل المجلس عن أي تقصير، ولأن المجلس لم يكن، في عهد ولد عبد العزيز، غير ديكور كجل المؤسسات الدستورية.

مهما يكن، فالمجلس الاقتصادي والاجتماعي هيئة دستورية يعهد إليها بتقديم الاستشارات وسن القوانين المتعلقة بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية. فأين تلك الاستشارات؟ كم عددها؟ ما أهميتها؟.. أسئلة ظلت تؤرق الرأي العام منذ إنشاء هذا المجلس في عهد ولد الطايع، ومنذ تنويمه وإيقاظه في العهود اللاحقة.

ومعروف أن الحكومة الموريتانية قررت، سنة 2015، رفع ميزانية المجلس الاقتصادي والاجتماعي إلي 290 مليون أوقية (قديمة) ضمن قانون الميزانية المعروض حينذاك أمام الجمعية الوطنية. في ماذا ذهبت تلك الأموال؟ ما أوجه صرفها؟ وما أهميتها حين يكون المجلس الاقتصادي والاجتماعي مجرد آلية دستورية جامدة؟

ويتشكل هذا المجلس من 42 عضوا يعينون بمرسوم صادر من رئاسة الجمهورية، ويتكون مكتبه من ستة أعضاء. أي دور يلعبه هذا العدد الكبير من الأطر؟ وهل ثمة ما يبرر علاواتهم المالية؟

وقد حدد الدستور الموريتاني لهذا المجلس مهمة تأمين انتظام النقاش والحوار بين مختلف الفرقاء الاقتصاديين والاجتماعيين والمهنيين بما يضمن التعاون بينهم ومشاركتهم في إثراء وضمان تنفيذ أفضل لسياسات الحكومة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وهل أمّن المجلس أو أجرى أي حوار بين الفرقاء؟ وهل حل أي معضل يتعلق بالمظالم والمطالب الاجتماعية؟ بمعنى: هل أدى دوره المنصوص دستوريا؟

والمجلس، حسب الدستور، هو مقود الحكامة الرشيدة. وبحسب المهام المحددة للمجلس فإنه يمكن لرئيس الجمهورية أو الوزير الأول أن يطلب منه إبداء الرأي أو إجراء أية دراسة تتناول مشكلة تمس الحياة الاقتصادية والاجتماعية للأمة، باستثناء قوانين المالية. هل تقدم المجلس بما من شأنه ضمان حكامة رشيدة؟ وهل أبدى رأيا أو قدم دراسة حول مشكل اقتصادي أو اجتماعي؟

كما أنه بمقدور المجلس، حسب نص القانون المنشئ له، أن "يتخذ المبادرة بتدارس المسائل الاقتصادية والاجتماعية، والقيام بما يلزم من دراسات ومسوح وتحقيقات، والاعتماد على نتائجها لإصدار آراء يرى أن من شأنها تعزيز النمو الاجتماعي للأمة". أين هذه المسوح والإحصاءات؟ وأين هذه الآراء المهمة بخصوص تعزيز النمو الاجتماعي؟

ما أربك الرأي العام هو أن الحكومة الموريتانية أعلنت، سنة 2020 المنصرمة، أن مجلساً جديداً مكلفاً بالحوار الاجتماعي تقرر تأسيسه. وقالت الحكومة في بيان مجلس الوزراء إن المؤسسة الجديدة، التي تحمل اسم "المجلس الوطني للحوار الاجتماعي"، تهدف إلى تكريس الحوار و"منع النزاعات الاجتماعية". وأوضح البيان أن المجلس الجديد سيكون "مسؤولا عن قيادة الحوار الاجتماعي، وتعزيز منع النزاعات"، وأن من مهامه "العمل على تهيئة مناخ اجتماعي موات للاستثمار الذي يولد فرص عمل لائق ومنتج ولتطوير أداء الأعمال من خلال الإدارة الاستراتيجية للعلاقات المهنية".

وهكذا أضحى من الوارد التساؤل: ما الفرق بين المجلس الوطني للحوار الاجتماعي والمجلس الاقتصادي والاجتماعي؟ ولماذا نراكم المجالس، بمهماتها المتطابقة وميزانياتها الكبيرة، في حين لا نجد ثمرة لها على أرض الواقع؟ وما الفائدة من مجلسين يقومان بنفس المهمة خاصة إذا كانا، الاثنين، غير مجدييْن عمليا وتطبيقيا وواقعيا؟

إن على الحوار الاجتماعي الذي أعلن عنه رئيس الجمهورية أن يعيد النظر في هذين المجلسين إما من حيث وجودهما، أو من حيث أنهما، مجتمعيْن، يشكلان عالة على الميزانية، وإما من حيث دمجهما وتفعيل عمل الهيئة المنبثقة عنهما.

ويتوجب التنبيه هنا، إلى أن هذه التساؤلات والانتقادات غير موجهة، بصفة شخصية ومشخصنة، لرؤساء وأعضاء المجلس الاجتماعي والاقتصادي الذين لا شك أن لديهم مبرراتهم.

تجارب أخرى

لنأخذ دولتين من دول الجوار نجح فيهما الحوار الاجتماعي إلى حد بعيد بفعل السياسات الناجعة والجادة. إنهما المغرب والسينغال.

ففي المملكة المغربية، شكل الحوار الاجتماعي سمة مميزة للمؤسسات الحديثة من خلال اعتماد الحوار كثقافة شائعة في فض النزاعات الاجتماعية وتحقيق السلم الاجتماعي وضمان التوازن بين الحقوق والواجبات.

وقد وجد الحوار الاجتماعي في المغرب مرجعياته في الدستور وفي الاتفاقيات الدولية وفي مدونة الشغل. إلا أن المملكة المغربية، وبدلا من مجلس اجتماعي واقتصادي كما هو عندنا، فككت الآلية إلى عدة قطاعات تختص كل منها بمهمات محددة، ما يسهل الحوار الاجتماعي، فهناك مجلس المفاوضة الجماعية، وهناك مجلس الشغل والوقاية من الأخطار المهنية، وهناك اللجنة المكلفة بتتبع التطبيق السليم للتشغيل المؤقت، وهناك المجلس الأعلى لإنعاش التشغيل، وهناك اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة.

إنها مجالس صغيرة من حيث التركيبة، لكنها متخصصة جدا وفعالة جدا لأن كل نمط من المشاكل الاجتماعية أعدت له هيئة مستقلة.

أما في السينغال، فيوجد المجلس الأعلى للحوار الاجتماعي، وهو يقوم بعمل المجلسين الموجودين في موريتانيا (المجلس الوطني للحوار الاجتماعي والمجلس الاقتصادي والاجتماعي).

ويضم المجلس الأعلى للحوار الاجتماعي في السينغال خمس لجان: لجنة الوساطة، لجنة التكوين والتعبئة، لجنة الإعلام والاتصال، لجنة الحماية الاجتماعية، لجنة النوع والعلاقات المهنية.

ويتكون هذا المجلس من 30 عضوا: ثلثهم يمثلون الحكومة، وثلثهم يمثلون أرباب العمل، وثلثهم يمثلون المنظمات العمالية النقابية. أما مهمة المجلس فتتمثل في القيام بتسهيل النقاشات، والقيام بالوساطات الاجتماعية بين الفرقاء والفاعلين الاجتماعيين، ودعم وتكوين الفاعلين في مجال الوقاية والتسيير وحل النزاعات الاجتماعية، ووضع آليات ملائمة للحوار الاجتماعي على مستوى القطاعات، والقيام بالدراسات المفيدة حول أوضاع وآفاق الحوار الاجتماعي، وصياغة تقرير سنوي حول حالة الحوار الاجتماعي. أي أن هذا المجلس يقوم، فعليا وليس نظريا، بعمل المجلسين المعطليْن في موريتانيا.

ودون الغوص في ما ستقدمه النقابات والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني من مقترحات حول الظروف والشروط المتعلقة بالسلم الاجتماعي المستديم، وعلاقة رفع المظالم الاجتماعية بالاستقرار والوحدة الوطنية، فإنه من الضروري التفكير في إشراك الجميع (ألوانا، وأعراقا، وأحزابا، وحركات، ونقابات، ومثقفين، ومفكرين، وإعلاميين، وحكماء، ومتقاعدين، وإداريين، وأمنيين، ووجهاء، وفقهاء، وحقوقيين) في مجريات الحوار الاجتماعي الوطني الذي بشّر به رئيس الجمهورية، كسابقة في تاريخ البلاد، كي تكون مخرجاته شاملة، وكي تكون خلاصاته بداية حقيقية لمنعرج السلم والوئام والنماء الذي نحلم به.

 

 

وكالة الوئام الوطني للأنباء 

أحد, 10/01/2021 - 13:29